فصل: تابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 بني الجرّاح وأحرقها وأخذ جميع ما فيها‏.‏

وقال القاضي الفاضل‏:‏ وفي جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وخمسمائة ورد الخبر بأنّ نخل العريش قطع الفرنج أكثره وحملوا جذوعه إلى بلادهم وملئت منه ولم يجدوا مخاطبًا على ذلك ونقل عن ابن عبد الحكم‏:‏ أنّ الجفار بأجمعه كان أيام فرعون موسى في غاية العمارة بالمياه والقرى والسكان وأنّ قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ‏"‏ الأعراف عن هذه المواضع وأنّ العمارة متصلة منه إلى اليمن ولذلك سميت العريش‏:‏ عريشًا وقيل‏:‏ إنها نهاية التخوم من الشام وإنّ إليه كان ينتهي رعاة إبراهيم الخليل عليه السلام بمواشيه وإنه عليه السلام اتخذ به عريشًا كان يجلس فيه حتى تدلب مواشيه بين يديه فسمي العريش من أجل ذلك وقيل‏:‏ إنّ مالك بن دعر بن حجر بن جذيلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدًا منهم‏:‏ العريش بن مالك وبه سميت العريش لأنه نزل بها وبناها مدينة وعن كعب الأحبار‏:‏ أنّ بالعريش تبور عشرة أنبياء‏.‏

 

ذكر مدينة الفرماء قال البكريّ

الفرماء بفتح أوّله وثانيه ممدود على وزن فعلاء وقد يقصر مدينة تلقاء مصر‏.‏

وقال ابن خالويه في كتاب ليس الفرما‏:‏ هذه سُميت بأخي الإسكندر كان يسمى‏:‏ الفرما وكان كافرًا وهي قرية أم إسماعيل بن إبراهيم انتهى‏.‏

ويقال‏:‏ اسمه الفرما بن فيلقوس ويقال فيه‏:‏ ابن فليس ويقال‏:‏ بليس وكانت الفرما على شط بحيرة تنيس وكانت مدينة خصباء وبها قبر جالينوس الحكيم وبنى بها المتوكل على الله حصنًا على البحر تولى بناءه عنبسة بن إسحاق أمير مصر في سنة تسع وثلاثين ومائتين عندما بنى حصن دمياط وحصن تنيس وأنفق فيها مالًا عظيمًا ولما فتح عمرو بن العاص عين شمس أنفذ إلى الفرماء أبرهة بن الصباح فصالحه أهلها على خمسمائة دينار هرقلية وأربعمائة ناقة وألف رأس من الغنم فرحل عنهم إلى البقارة‏.‏

وفي سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة نزل الروم عليها فنفر الناس إليهم وقتلوا منهم رجلين ثم نزلوا في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وثلثمائة فخرج إليهم المسلمون وأخذوا منهم مركبًا وقتلوا من فيه وأسروا عشرة‏.‏

وقال اليعقوبيّ‏:‏ الفرما أوّل مدن مصر من جهة الشمال وبها أخلاط من الناس وبينها وبين البحر الأخضر ثلاثة أميال‏.‏

وقال ابن الكنديّ‏:‏ ومنها الفرما وهي أكثر عجائب وأقدم آثارًا ويذكر أهل مصر‏:‏ أنه كان منها طريق إلى جزيرة قبرس في البرّ فغلب عليها البحر ويقولون‏:‏ إنه كان فيما غلب عليه البحر وقال يحيى بن عثمان‏:‏ كنت أرابط في الفرما وكان بينها وبين البحر قريب من يوم يخرج الناس والمرابطون في أخصاص على الساحل ثم علا البحر على ذلك كله‏.‏

وقال ابن قديد‏:‏ وجَّه ابن المدبر وكان بتنيس إلى الفرما في هدم أبواب من حجارة شرقيّ الحصن احتاج أن يعمل منها جيرًا فلما قلع منها حجر أو حجران خرج أهل الفرما بالسلاح فمنعوا من قلعها وقالوا‏:‏ هذه الأبواب التي قال الله فيها على لسان يعقوب عليه السلام‏:‏ ‏"‏ يا بني لا تدخلوا من باب واحد ادخلوا من أبواب متفرّقة ‏"‏ يوسف 67 والفرما بها النخل العجيب الذي يثمر حين ينقطع البسر والرطب من سائر الدنيا يبتدئ هذا الرطب من حين يلد النخل في الكوانين فلا ينقطع أربعة أشهر حتى يجيء البلح في الربيع وهذا لا يوجد في بلد من البلدان لا بالبصرة ولا بالحجاز ولا باليمن ولا بغيرها من البلدان ويكون في هذا البسر ما وزن البسرة الواحدة فوق العشرين درهمًا وفيه ما طول البسرة نحو الشبر والفتر‏.‏

وقال ابن المأمون البطايحي في حوادث سنة تسع وخمسمائة‏:‏ ووصلت النجابون من والي الشرقية تخبر بأن بغدوين ملك الفرنج وصل إلى أعمال الفرما فسَيَّر الأفضل بن أمير الجيوش للوقت إلى والي الشرقية بأن يسير المركزية والمقطعين بها وسيَّر الراجل من العطوفية وأن يسير الوالي بنفسه بعد أن يتقدّم إلى العربان بأسرهم بأن يكونوا في الطوالع ويطاردوا الفرنج ويشارفوهم بالليل قبل وصول العساكر إليم فاعتمد ذلك ثم أمر بإخراج الخيام وتجهيز الأصحاب والحواشي فلما تواصلت العساكر وتقدّمها العربان وطاردوا الفرنج وعلم بغدوين ملك الفرنج أنّ العساكر متواصلة إليه وتحقق أن الإقامة لا تمكنه أمر أصحابه بالنهب والتخريب والإحراق وهدم المساجد فأحرق جامعها ومساجدها وجميع البلد وعزم على الرحيل فأخذه الله سبحانه وتعالى وعجل بنفسه إلى النار فكتم أصحابه موته وساروا بعد أن شقوا بطن بغدوين وملأوه ملحًا حتى بقي إلى بلاده فدفنوه بها‏.‏

وأما العساكر الإسلامية فإنهم شنوا الغارات على بلاد العدوّ وعادوا بعد أن خيموا على ظاهر عسقلان وكتب إلى الأمير ظهير الدين طفدكين صاحب دمشق بأن يتوجه إلى بلاد الفرنج فسار إلى عسقلان وحملت إليه الضيافات وطولع بخبر وصوله فأمر بحمل الخيام وعدّة وافرة من الخيل والكسوات والبنود والأعلام وسيف ذهب ومنطقه ذهب وطوق ذهب وبدلة طقم وخيمة كبيرة مكملة ومرتبة ملوكية وفرشها وجميع آلاتها وما تحتاج إليه من آلات الفضة وسير برسم شمس الخواص وهو مقدم كبير خلعة مذهبة ومنطقة ذهب وسيمْ وسير برسم المميزين من الواصلين خلع وسيوف وسلم ذلك بثبت لأحد الحجاب وسير معه فرّاشان برسم الخيام وأمر بضرب الخيمة الكبيرة وفرشها وأن يركب والي عسقلان وظهير الدين وشمس الخواص وجميع الأمراء الواصلين والمقيمين بعسقلان إلى باب الخيمة ويقبلوه ثم إلى بساطها والمرتبة المنصوبة ثم يجلس الوالي وظهير الدين وشمس الخواص والمقدّمون ويقف الناس بأجمعهم إجلالًا وتعظيمًا ويخلع على الأمير ظهير الدين وشمس الخواص وتشدّ المناطق في أوساطهما ويقلدا بالسيوف ويخلع بعدهما على المميزين ثم يسير ظهير الدين والمقدّمون بالتشريف والأعلام والرايات المسيرة إليهم إلى أن يصلوا إلى الخيام التي ضربت لهم فإذا كان كل يوم يركب الوالي والأميران والمقدّمون والعساكر إلى الخيمة الملوكية ويتفاوضون فيما يجب من تدبير العساكر فامتثل ذلك وتواصلت الغارات على بلاد العدوّ وأسروا وقتلوا فسير إليهم الخلع ثانيًا وجعل الشمس الخواص خاصة في هذه السفرة عشرة آلاف دينار وتسلم ظهير الدين الخيمة الكبيرة بما فيها وكان تقدير ما حصل له ولأصحابه ثلاثين ألف دينار وبلغ المنفق في هذه النوبة وعلى ذهاب بغدوين وهلاكه مائة ألف دينار‏.‏

وفي شهر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة نزل الفرنج على الفرما في جمع كبير وأحرقوها ونهبوا أهلها وآخر أمرها أنّ الوزير شاور خرَّبها لما خرج منها متوليها ملهم أخو الضرغام في سنة فاستمرّت خرابًا لم تعمر بعد ذلك وكان بالفرما والبقارة والورادة عرب من جذام يقال لهم‏:‏ القاطع وهو جري بن عوف بن مالك بن شنوءة بن بديل بن جشم بن جذام منهم‏:‏ عبد العزيز بن الوزير بن صابي بن مالك بن عامر بن عدي بن حرش بن بقر بن نصر بن القاطع مات في صفر سنة خمس ومائتين وللسرويّ والجرويّ هنا أخبار كثيرة نبهنا عليها في كتاب عقد جواهر الأسفاط في أخبار مدينة الفسطاط‏.‏

وقال ابن الكنديّ‏:‏ وبها مجمع البحرين وهو البرزخ الذي ذكره الله عزّ وجل فقال‏:‏ ‏"‏ مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ‏"‏ الرحمن وقال‏:‏ وجعل بين البحرين حاجزًا وهما بحر الروم وبحر الصين والحاجز بينهما مسيرة ليلة ما بين القلزم والفرما وليس يتقاربان في بلد من البلدان أقرب منهما بهذا الموضع وبينهما في السفر مسيرة شهور‏.‏

ذكر مدينة القلزم القُلزم‏:‏ بضم القاف وسكون اللام وضم الزاي وميم بلدة كانت على ساحل بحر اليمن في أقصاه من جهة مصر وهي كورة من كور مصر وإليها ينسب بحر القلزم وبالقرب منها غرق فرعون وبينها وبين مدينة مصر ثلاثة أيام وقد خربت ويعرف اليوم موضعها بالسويس تجاه عجرود ولم يكن بالقلزم ماء ولا شجر ولا زرع وإنما يحمل الماء إليها من آبار بعيدة وكان بها فرضة مصر والشام ومنها تحمل الحمولات إلى الحجاز واليمن ولم يكن بين القلزم وفاران قرية ولا مدينة وهي نخل يسير فيه صيادو السمك وكذلك من فاران وجيلان إلى أيلة‏.‏

قال ابن الطوير‏:‏ والبلد المعروف بالقلزم أكثرها باق إلى اليوم ويراها الراكب السائر من مصر إلى الحجاز وكانت في القديم ساحلًا من سواحل الديار المصرية ورأيت شيئًا من حسابه من جهة مستخدميه في حواصل القصر وما ينفق على واليه وقاضيه وداعيه وخطيبه والأجناد المركزين به لحفظه وقربه وجامعه ومساجده وكان مسكونًا مأهولًا‏.‏

قال المُسَبحي في حوادث سنة سبع وثمانين وثلثمائة وفي شهر رمضان‏:‏ سامح أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أهل مدينة القلزم مما كان يُؤخذ من مكوس المراكب‏.‏

وقال ابن خرداذبة عن التجار فيركبون في البحر الغربيّ ويخرجون بالفرماء ويحملون تجاراتهم على الظهر إلى القلزم وبينهما خمسة وعشرون فرسخًا ثم يركبون البحر الشرقيّ من القلزم إلى تجار جدّة ثم يمضون إلى السند والهند والصين ومن القلزم ينزل الناس في بريّة وصحراء ست مراحل إلى أيلة ويتزوّدون من الماء لهذه المراحل الست ويقال‏:‏ إنّ بين القلزم وبحر الروم ثلاث مراحل وإنّ ما بينهما هو البرزخ الذي ذكره تعالى بقوله‏:‏ ‏"‏ بينهما برزخ لا يبغيان ‏"‏ الرحمن 20‏.‏

ذكر التيه هو أرض بالقرب من أيلة بينهما عقبة لا يكاد الراكب يصعدها لصعوبتها إلا أنها مهدت في زمان خمارويه بن أحمد بن طولون ويسير الراكب مرحلتين في محض التيه هذا حتى يوافي ساحل بحر فاران حيث كانت مدينة قاران وهناك غرق فرعون والتيه مقدار أربعين فرسخًا في مثلها وفيه تَاه بنو إسرائيل أربعين سنة لم يدخلوا مدينة ولا أووا إلى بيت ولا بدّلوا ثوبًا وفيه مات موسى عليه السلام‏.‏

ويقال‏:‏ إنّ طول التيه نحو من ستة أيام واتفق أنّ المماليك البحربة لما خرجوا من القاهرة هاربين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة مرّ طائفة منهم بالتيه فتاهوا فيه خمسة أيام ثم تراءى لهم في اليوم السادس سواد على بعد فقصدوه فإذا مدينة عظيمة لها سور وأبواب كلها من رخام أخضر فدخلوا بها وطافوا بها فإذا هي قد غلب عليها الرمل حتى طم أسواقها ودورها ووجدوا بها أواني وملابس وكانوا إذا تناولوا منها شيئًا تناثر من طول البلى ووجدوا في صينية بعض البزازين تسعة دنانير ذهبًا عليها صورة غزال وكتابة عبرانية وحفروا موضعًا فإذا حجر على صهريج ماء فشربوا منه ماء أبرد من الثلج ثم خرجوا ومشوا ليلة فإذا بطائفة من العربان فحملوهم إلى مدينة الكرك فدفعوا الدنانير لبعض الصيارفة فإذا عليها أنها ضربت في أيام موسى عليه السلام ودفع لهم في كل دينار مائة درهم وقيل لهم‏:‏ إنّ هذه المدينة الخضراء من مدن بني إسرائيل ولها طوفان رمل يزيد تارة وينقص أخرى لا يراها إلا تائه والله أعلم‏.‏

ذكر مدينة دمياط اعلم أنّ دمياط‏:‏ كورة من كور أرض مصر بينها وبين تنيس اثنا عشر فرسخًا ويقال‏:‏ سُميت بدمياط من ولد أشمن بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام‏.‏

ويقال‏:‏ إنّ إدريس عليه السلام كان أوّل ما أنزل عليه ذو القوّة والجبروت أنا الله مدين المدائن الفلك بأمري وصنعي أجمع بين العذب والملح والنار والثلج وذلك بقدرتي ومكنون علمي الدال والميم والألف والطاء قيل هم‏:‏ بالسريان دمياط فتكون دمياط كلمة سريانية أصلها دمط أي‏:‏ القدرة إشارة إلى مجمع العذب والملح‏.‏

وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه‏:‏ دمياط بلد قديم بني في زمن قليمون بن اتريب بن قبطيم بن مصرايم على اسم غلام كانت أمّه ساحرة لقليمون‏.‏

ولما قدم المسلمون إلى أرض مصر كان على دمياط رجل من أخوال المقوقس يقال له‏:‏ الهاموك فلما افتتح عمرو بن العاص مصر امتنع الهاموك بدمياط واستعدّ للحرب فأنفذ إليه عمرو بن العاص المقداد بن الأسود في طائفة من المسلمين فحاربهم الهاموك وقتل ابنه في الحرب فعاد إلى دمياط وجمع إليه أصحابه فاستشارهم في أمره وكان عنده حكيم قد حضر الشورى فقال‏:‏ أيها الملك إنّ جوهر العقل لا قيمة له وما استغنى به أحد إلا هداه إلى سبيل الفوز والنجاة من الهلاك وهؤلاء العرب من بدء أمرهم لم تُردّ لهم راية وقد فتحوا البلاد وأذلوا العباد وما لأحدٍ عليهم قدرة ولسنا بأشدّ من جيوش الشام ولا أعز ولا أمنع وإنّ القوم قد أيدوا بالنصر والظفر والرأي أن تعقد مع القلوم صلحًا ننال به الأمن وحقن الدماء وصيانة الحرم فما أنت بأكثر رجالًا من المقوقس‏.‏

فلم يعبأ الهاموك بقوله وغضب منه فقتله وكان له ابن عارف عاقل وله دار ملاصقة للسور فخرج إلى المسلمين في الليل ودلهم على عورات البلد فاستولى المسلمون عليها وتمكنوا منها وبرز الهاموك للحرب فلم يشعر بالمسلمين إلا وهم يكبرون على سور البلد وقد ملكوه فعندما رأى شطا بن الهاموك المسلمين فوق السور لحق بالمسلمين ومعه عدّة من أصحابه ففت ذلك في عضد أبيه واستأمن للمقداد فتسلم المسلمون دمياط واستخلف المقداد عليها وسير بخبر الفتح إلى عمرو بن العاص وخرج شطا وقد أسلم إلى البرلس والدميرة وأشموم طناح فحشد أهل تلك النواحي وقدم بهم مدد للمسلمين وعونًا لهم على عدوّهم وسار بهم مع المسلمين لفتح تنيس فبرز لأهلها وقاتلهم قتالًا شديدًا حتى قتل رحمه اللّه في المعركة شهيدًا بعدما أنكى فيهم وقتل منهم فحمل من المعركة ودفن في مكانه المعروف به خارج دمياط وكان قتله في ليلة الجمعة النصف من شعبان فلذلك صارت هذه الليلة من كل سنة موسمًا يجتمع الناس فيها من النواحي عند شطا ويحيونها وهم على ذلك إلى اليوم وما زالت دمياط بيد المسلمين إلى أن نزل عليها الروم في سنة تسعين من الهجرة فأسروا خالد بن كيسان وكان على البحر هناك وسيروه إلى ملك الروم فأنفذه إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك من أجل الهدنة التي كانت بينه وبين الروم‏.‏

فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك نازل الروم دمياط في ثلثمائة وستين مركبًا فقتلوا وسبوا وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائة ولما كانت الفتنة بين الأخوين‏:‏ محمد الأمين وعبد الله المأمون وكانت الفتن بأرض مصر طمع الروم في البلاد ونازلوا دمياط في أعوام بضع ومائتين‏.‏

ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق نزل الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائتين فملكوها وما فيها وقتلوا بها جمعًا كثيرًا من المسلمين وسبوا النساء والأطفال وأهل الذمّة فنفر إليهم عنبسة بن إسحاق يوم النحر في جيشه ونفر كثير من الناس إليهم فلم يدركوهم ومضى الروم إلى تنيس فأقاموا بأشتومها فلم يتبعهم عنبسة فقال يحيى بن الفضيل للمتوكل‏:‏ أترضى بأن يوطأ حريمك عنوة وأن يستباح المسلمون ويحربوا حمار أتى دمياط والروم وثب بتنيس رأي العين منه وأقرب مقيمون بالأشتوم يبغون مثل ما أصابوه من دمياط والحرب ترتب فما رام من دمياط شبرًا ولا درى من العجز ما يأتي وما يتجنب فلا تنسنا إنا بدار مضيعة بمصر وإنّ الدين قد كاد يذهب فأمر المتوكل ببناء حصن دمياط فابتدئ في بنائه يوم الإثنين لثلاث خلون من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وأنشأ من حينئذِ الأسطول بمصر فلما كان في سنة سبع طرق الروم دمياط في نحو مائتي مركب فأقاموا يعبثون في السواحل شهرًا وهم يقتلون ويأسرون وكانت للمسلمين معهم معارك‏.‏

ثم لما كانت الفتن بعد موت كافور الإخشيديّ طرف الروم دمياط لعشر خلون من رجب سنة وفي سنة ثمان وأربعمائة ظهر بدمياط سمكة عظيمة طولها مائتان وستون ذراعًا وعرضها مائة ذراع وكانت حمير الملح تدخل في جوفها موسوقة فتفرّغ وتخرج ووقف خمسة رجال في قحفها ومعهم المجاريف يجرفون الشحم ويناولونه الناس وأقام أهل تلك النواحي مدّة طويلة يأكلون من لحمها‏.‏

وفي أيام الخليفة الفائز بنصر الله عيسى والوزير حينئذٍ الصالح طلائع بن رزيك نزل على دمياط نحو ستين مركبًا في جمادى الآخرة سنة خمسين وخمسمائة بعث بها لوجيز بن رجاو صاحب صقلية فعاثوا وقتلوا ونزلوا تنيس ورشيد والإسكندرية فأكثروا فيها الفساد‏.‏

ثم كانت خلافة العاضد لدين الله في وزارة شاور بن مجير السعديّ الوزارة الثانية عندما حضر ملك الفرنج مري إلى القاهرة وحصرها وقرّر على أهلها المال واحترقت مدينة الفسطاط فنزل على تنيس وأشموم ومنية عمر وصاحب أسطول الفرنج في عشرين شونة قتل وأسر وسبى‏.‏

وفي وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب للعاضد وصل الفرنج إلى دمياط في شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وخمسمائة وهم فيما يزيد على ألف ومائتي مركب فخرجت العساكر من القاهرة وقد بلغت النفقة عليهم زيادة على خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار فأقامت الحرب مدّة خمسة وخمسين يومًا وكانت صعبة شديدة واتهم في هذه النوبة عدة من أعيان المصريين بممالأة الفرنج ومكاتبتهم وقبض عليهم الملك الناصر وقتلهم‏.‏

وكان سبب هذه النوبة أنّ الغزو لما قدموا إلى مصر من الشام صحبة أسد الدين شيركوه تحرّك الفرنج لغزو ديار مصر خشية من تمكن الغزو بها فاستمدّوا إخوانهم أهل صقلية فأمدّوهم بالأموال والسلاح وبعثوا إليهم بعدة وافرة فساروا بالدبابات والمجانيق ونزلوا على دمياط في صفر وهم في العدة التي ذكرنا من المراكب وأحاطوا بها بحرًا وبرًّا فبعث السلطان بابن أخيه تقي الدين عمرو وأتبعه بالأمير شهاب الدين الحازميّ في العساكر إلى دمياط وأمدّهما بالأموال والميرة والسلاح واشتدّ الأمر على أهل دمياط وهم ثابتون على محاربة الفرنج‏.‏

فسيَّر صلاح الدين إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستنجده ويعلمه بأنه لا يمكنه الخروج من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفًا من قيام المصريين عليه فجهز إليه العساكر شيئًا بعد شيء وخرج نور الدين من دمشق بنفسه إلى بلاد الفرنج التي بالساحل وأغار عليها واستباحها فبلغ ذلك الفرنج وهم على دمياط فخافوا على بلادهم من نور الدين أن يتمكن منها فرحلوا عن دمياط في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل بعدما غرق لهم نحو الثلثمائة مركب وقلت رجالهم بفناء وقع فيهم وأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها وكان صلاح الدين يقول‏:‏ ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إليَّ مدة مقام الفرنج عل دمياط‏:‏ ألف ألف دينار سوى ما أرسله إلي من الثياب وغيرها‏.‏

وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة رتبت المقاتلة على البرجين وشدّت مراكب إلى السلسلة ليقاتل عليها ويدافع عن الدخول من بين البرجين ورمّ شعث سور المدينة وسدّت ثلمة وأتقنت السلسلة التي بين البرجين فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار واعتبر السور فكان قياسه‏:‏ أربعة آلاف وستمائة وثلاثين ذراعًا‏.‏

وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة أمر السلطان بقطع أشجار بساتين دمياط وحفر خندقها وعمل جسر عند سلسلة البرج‏.‏

وفي سنة خمس عشرة وستمائة كانت واقعة دمياط العظمى وكان سبب هذه الواقعة أنّ الفرنج في سنة أربع عشرة وستمائة تتابعت إمدادهم من رومية الكبرى‏:‏ مقرّ البابا ومن غيرها من بلاد الفرنج وساروا إلى مدينة عكا فاجتمع بها عدة من ملوك الفرنج وتعاقدوا على قصد القدس وأخذه من أيدي المسلمين فصاروا بعكا في جمع عظيم‏.‏

وبلغ ذلك الملك أبا بكر بن أيوب فخرج من مصر في العساكر إلى الرملة فبرز الفرنج من عكا في جموع عظيمة فسار العادل إلى بيسان فقصده الفرنج فخافهم لكثرتهم وقلة عسكره فأخذ على عقبة رفيق يريد دمشق وكان أهل بيسان وصا حولها قد اطمأنوا لنزول السلطان هناك فأقاموا في أماكنهم وما هو إلا أن سار السلطان وإذا بالفرنج قد وضعوا السيف في الناس ونهبوا البلاد فحازوا من أموال المسلمين ما لا يحصى كثرة وأخذوا بيسان وبانياس وسائر القرى التي هناك وأقاموا ثلاثة أيام ثم عادوا إلى مرج عكا بالغنائم والسبي وهلك من المسلمين خلق كثير فاستراح الفرنج بالمرج أيامًا ثم عادوا ثانيًا ونهبوا صيدا والشقيف وعادوا إلى مرج عكا فأقاموا به وكان ذلك كله فيما بين النصف من شهر رمضان وعيد الفطر والملك العادل مقيم بمرج الصفر وقد سير ابنه المعظم عيسى بعسكر إلى نابلس لمنع الفرنج من طروقها والوصول إلى بيت المقدس فنازل الفرنج قلعة الطور سبعة عشر يومًا ثم عادوا إلى عكا وعزموا على قصد الديار المصرية فركبوا بجموعهم البحر وساروا إلى دمياط في صفر فنزلوا عليها يوم الثلاثاء رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة الموافق لثامن حزيران وهم نحو السبعين ألف فارس وأربعمائة ألف راجل فخيموا تجاه دمياط في البرّ الغربيّ وحفروا على عسكرهم خندقًا وأقاموا عليه سورًا وشرعوا في قتال برج دمياط فإنه كان برجًا منيعًا فيه سلاسل من حديد غلاظ تُمدُّ على النيل لتمنع المراكب الواصلة في البحر الملح من الدخول إلى ديار مصر في النيل وذلك أنّ النيل إذا انتهى إلى فسطاط مصر مرّ عليه في ناحية الشمال إلى شطنوف فإذا صار إلى شطنوف انقسم قسمين أحدهما يمرّ في الشمال إلى رشيد فيصب في البحر الملح والشطر الآخر يمرّ من شطنوف إلى جوجر ثم يتفرّق من عند جوجر فرقتين فرقة تمرّ إلى أشموم فتصب في بحيرة تنيس وفرقة تمرّ من جوجر إلى دمياط فتصب في البحر الملح هناك وتصير هذه الفرقة من النيل فاصلة بين مدينة دمياط والبرّ الغربيّ وهذا البرّ الغربيّ من دمياط يعرف بجزيرة دمياط يحيط بها ماء النيل والبحر الملح‏.‏

وفي مدة إقامة الفرنج بهذا البرّ الغربيّ عملوا الآلات والمراسي وأقاموا أبراجًا يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه فإنهم إذا ملكوه تمكنوا من العبور في النيل إلى القاهرة ومصر وكان هذا البرج مشحونًا بالمقاتلة فتحيل الفرنج عليه وعملوا برجًا من الصواري على بسطة كبيرة وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه وقاتلوا من به حتى أخذوه‏.‏

فبلغ نزول الفرنج على دمياط الملك الكامل وكان يحلف أباه الملك العادل على ديار مصر فخرج بمن معه من العساكر في ثالث يوم من وقوع الطائر بخبر نزول الفرنج لخمس خلون منه وأمر والي الغربية بجمع العربان وسار في جمع كبير وخرج الأسطول فأقام تحت دمياط ونزل السلطان بمن معه من العساكر بمنزلة العادلية قرب دمياط وامتدّت عساكره إلى دمياط لتمنع الفرنج من السور والقتال مستمرّ والبرج ممتنع مدّة أربعة أشهر والعادل يسير العساكر من البلاد الشامية شيئًا بعد شيء حتى تكاملت عند الملك الكامل واهتمّ الملك لنزول الفرنج على دمياط واشتدّ خوفه فرحل من مرج الصفر إلى عالقين فنزل به المرض ومات في سابع جمادى الآخرة فكتم الملك المعظم عيسى موته وحمله في محفة وجعل عنده خادمًا وطبيبًا راكبًا إلى جانب المحفة والشر بدار يصلح الشراب ويحمله إلى الخادم فيشربه ويوهم الناس أنّ السلطان شربه إلى أن دخلوا به إلى قلعة دمشق وصارت إليها الخزائن والبيوتات فأعلن بموته‏.‏

وتسلم ابنه الملك المعظم جميع ما كان معه ودفنه بالقلعة ثم نقله إلى مدرسة العادلية بدمشق وبلغ الملك الكامل موت أبيه وهو بمنزلة العادلية قرب دمياط فاستقلّ بمملكة ديار مصر واشتدّ الفرنج وألحوا في القتال حتى استولوا على برج السلسلة وقطعوا السلاسل المتصلة به لتجوز مراكبهم في بحر النيل ويتمكنوا من البلاد فنصب الملك الكامل بدل السلاسل جسرًا عظيمًا لمنع الفرنج من عبور النيل فقاتلت الفرنج عليه قتالًا شديدًا إلى أن قطعوه وكان قد أنفق على البرج والجسر ما ينيف على سبعين ألف دينار وكان الكامل يركب في كل يوم عدة مرار من العادلية إلى دمياط لتدبير الأمور وإعمال الحيلة في مكايدة الفرنج فأمر الملك الكامل أن يفرّق عدة من المراكب في النيل حتى تمنع الفرنج من سلوك النيل فعمد الفرنج إلى خليج هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديمًا فحفروه وعمقوا حفره وأجروا فيه المال إلى البحر الملح وأصعدوا مراكبهم فيه إلى بورة على أرض جيزة دمياط مقابل المنزلة التي بها السلطان ليقاتلوه من هناك فلما صاروا في بورة جاؤوه وقاتلوه في الماء وزحفوا إليه عدة مرار فلم يظفروا منه بطائل ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأن الميرة والإمداد متصلة إليهم والنيل يحجز بينهم بين الفرنج وأبواب المدينة مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر والعربان تتخطف الفرنج في كل ليلة بحيث امتنعوا من الرقاد خوفًا من غاراتهم فلما قوي طمع العرب في الفرنج حتى صاروا يخطفونهم نهارًا ويأخذون الخيم بمن فيها أكمن الفرنج لهم عدة كمناء وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وأدرك الناس الشتاء وهاج البحر على مخيم المسلمين وغرّقهم فعظم البلاء وتزايد الغم وألح الفرنج في القتال وكادوا أن يملكوا فبعث الله ريحًا قطعت مراسي مرمة الفرنج‏.‏

وكانت من عجائب الدنيا فمرّت إلى برّ المسلمين فأخذوها فإذا هي مصفحة بالحديد لا تعمل فيها النار ومساحتها خمسمائة ذراع فكسروها فإذا فيها مسا ميرزنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلًا وبعث الكامل إلى الآفاق سبعين رسولًا يستنجد أهل الإسلام لنصرة المسلمين ويخوّفهم من غلبة الفرنج على مصر‏.‏

فساروا في شوال وأتته النجدات من حماه وحلب وبينا الناس في ذلك إذ طمع الأمير عماد الدين أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ‏:‏ المعروف بابن المشطوب في الملك الكامل عندما بلغه موت الملك العادل وكان له لفيف ينقادون إليه ويطيعونه وكان أميرًا كبيرًا مقدّمًا عظيمًا في الأكراد الهكارية وافر الحرمة عند الملوك معدودًا بينهم مثل واحد منهم وكان مع ذلك عالي الهمة غزير الجود واسع الكرم شجاعًا أبيّ النفس تهابه الملوك وله الوقائع المشهورة وهو من أمراء دولة صلاح الدين يوسف فاتفق مع جماعة من الجند وأراد على خلع الملك الكامل وإقامة أخيه الملك الفائز إبراهيم ليصير له الحكم ووافقه الأمير عز الدين الحميدي والأمير أسد الدين الهكاريّ والأمير مجاهد الدين وجماعة من الأمراء فلما بلغ ذلك الملك الكامل دخل عليهم وهم مجتمعون والمصحف بين أيديهم ليحلفوا للفائز فلما رأوه انفضوا فخشي على نفسه فخرج فاتفق وصول الصاحب صفيّ الدين بن سكر من آمد إلى الملك الكامل فإنه كان استدعاه بعد موت أبيه فتلقاه وأكرمه وذكر له ما هو فيه فضمن له تحصيل المال فلما كان في الليل ركب الملك الكامل وتوجه من العادلية في جريدة إلى أشموم طناح فنزلها وأصبح العسكر بغير سلطان فركب كل منهم هواه ولم يعطف الأخ على أخيه وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم ولحقوا بالسلطان‏.‏